ما ورد عن الصحابة والتابعين أن الله جالس وقاعد على عرشه

اعلم رحمك الله تعالى، أنه ليس هناك خلاف بين العرب، في أن معنى (استوى على العرش) أي: علا وارتفع وصعد واستقر عليه جالسا وقاعدا، وأن هذا المعنى متفق عليه بين الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، وأئمة أهل السنة المرضيين، لم يعرف لهم مخالف إلا الجهمية تلاميذ ملاحدة اليونان، وأفراخهم من المعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية، ومن اعتنق ملّتهم من الفرق الأخرى كالإباضية والرافضة.
وذلك أن استوى تعني في لغة العرب: اعتدل، فهما معنيان مترادفان، ولكن يتغير مدلول كلمة استوى بتغير الأحرف المضافة إليها.
فإذا أضيفت إلى حرف "على" كان معناها: اعتدل في علوه وصعوده واستقراره على الشيء، وهذا لا يكون إلا إذا كان المستوي على الشيء، قد تمكن من علوه وصعوده واستقراره عل الشيء، فليس منحرفاً عنه ولا في طور العلو عليه، بل قد اعتدل في علوه على الشيء.
وإذا أضيفت إلى حرف "إلى" كان معناها: اعتدل في توجهه إلى الشيء، فليس منحرفاً عنه ولا في طور التوجه إليه، بل قد اعتدل في توجهه إلى الشيء.
وإذا أضيفت إلى حرف "في" كان معناها: اعتدل في توسطه في الشيء، فليس منحرفاً عن الشيء ولا في طور الدخول فيه، بل قد دخل وتوسط في الشيء.
ومما يدل على ذلك، ما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا.
رواه النسائي في سننه.
والشاهد من الخبر، هو قوله: "إذا استوى على بعيره" فالنسائي رحمه الله، استدل بهذا الحديث على إثبات أن الاستواء على الشيء جلوس.
وهذا كما قال تعالى مخبراً عن سفينة نوح: (وأستوت على الجوديّ) أي علت وارتفعت وصعدت واستقرت جالسة وقاعدة على جبل الجودي.
وإنما المغايرة في الكيفية، فكما أن جلوس السفينة وجلوس البشر وجلوس الدواب على اختلاف اشكالها وهيئاتها متغايرة، وبكيفيات مختلفة، فكذلك جلوس الله تعالى، لا نعلم كيفيته، وإنما نعلم معناه في اللغة.
ولذلك لما سئل الإمام مالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة، عن قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) كيف استواءه؟ قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
فقوله "الاستواء غير مجهول" أي: غير مجهول معناه في اللغة.
وقوله "والكيف غير معقول" أي: لا نعقل كيفية استواء الله تعالى.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحق عن عبد الله بن خليفة عن عمر رضي الله عنه قال (إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد ).
حدثني أبي نا وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحق عن عبد الله بن خليفة عن عمر رضي الله عنه قال (إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي)، فاقشعر رجل، سماه أبي، عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها))
رواه عبدالله بن حنبل في كتابه السنة، بسند لا بأس به، وأبو إسحاق السبيعي ضعيف مدلس، وعبدالله بن خليفة، تابعي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، صحب عمر بن الخطاب وروى عنه، وروى عنه: أبو إسحاق السبيعي ويونس بن أبي إسحاق، وهو حسن الحديث.
فالخبر فيه ضعف يسير، لضعف أبي إسحاق وتدليسه، لذلك قبله علماء السنة واحتجوا به، لأن الضعيف ضعفاً يسير، لا يمنع من الاحتجاج به إذا سلم من المعارض، كيف وقد وردت الأخبار بما يتوافق مع هذا الخبر ويصححه.
وعن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {الرحمن على العرش استوى}، فقال: جالس. اهــ
رواه الحكم بن معبد في كتابه الرؤية، ونقله عنه الإمام الدشتي في كتابه إثبات الحد لله عز وجل.
وإسناده صحيح، إلا أن الشعبي لم يسمع من عبدالله بن مسعود، ولكنه سمع كبار أصحابه، والشعبي ثقة ثبت.
وعن عباد بن منصور، قال: سألت الحسن وعكرمة، عن قوله {الرحمن على العرش استوى}، قالا: جلس. اهـ
رواه الحكم بن معبد في كتابه الرؤية، ونقله عنه الإمام الدشتي في كتابه إثبات الحد لله عز وجل.
وإسناده حسن.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: "الكرسي موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل".
أخرجه الطبري في تفسيره بسند صحيح.
والأخبار في هذا الباب كثيرة، في إثبات علو الله بذاته على عرشه، وإثبات الجهة والحيّز والحدّ له سبحانه، وأن الله جالس على عرشه، وأن عرشه يئط من ثقله كأطيط الرحل الجديد، ومع أن أسانيد تلك الأخبار فيها ضعف، إلا أن تواتر معانيها يرفعها إلى درجة الحسن، ولكني اقتصرت هنا، بما لا يستطيع المتكلمون الطعن في سنده، وبغية للاختصار، فإن طالب الحق يكفيه دليل، وصاحب الهوى لا يكفيه ألف دليل!